دراسة نقدية كانت لي عن نص الشاعر الفلسطيني - حسام سواعد - والذي كان بعنوان - كوابيس آخر الليل الحزينة - . أعتاد الناس على تصور الكوابيس قرينة للنوم والسكون والهمود والخمود وعتمة تكتف كل الحواس كالليل الحالك واعتاد الناس على تصور الرعب قرينا للكوابيس وكم كان يبدو غريبا ان تبرز الكوابيس جهارا نهارا تحت مرأى الشمس وعلى وضح النهار وفي ذروة الحركة وفي قمة نشاط الحواس .اعتاد الجميع على ان الصمت والخرس هما متلازمتان للحظة حلول الكابوس على الذهن ولم يخطر ببال احد ان يكون الكابوس حديثا يكتبه الشاعر وحروف تستصرخ اهتمام المتعاطفين مع قضيته والداعمين لها .لم يكن في حسبان احد ان يتصور الابداع قرينا لكوابيس او مولودا من رحمها لأن الآخرين معتادون على تصور انشراح النفس وانبساط المزاج هما البيئة الخصبة للأبداع لا الضغط والمعاناة .كان هذا مقدمة بسيطة عن فكرة النص التي وسمها كاتبه بعنوان (كوابيس آخر الليل الحزينة).
وبعد ان تجرد الذهن من راحته واهتزت الافكار متزلزلة من مشاهد تفوق الوصف وبعد ان تصاعد غبار الظروف ومع خمود اصوات الحياة في مشهد واقعي على مرأى ومسمع كل وجدان حي بدأت صورت المشهد تتكشف وبدأت اولى ملامح الكابوس بالظهور فكان :
سائرا وحيدا
ساهرا وحيدا
بين الليل والشتاء .
وهنا تبدو لنا جلية فكرة الشعور بالوحدة في يقظة يفترض ان يكون بها مايبدد تلك الوحدة فالشوارع لاتخلو من سائرين والسهر لا يخلو من وجود مايترافق معه لكن الوحدة كانت لصيقة للحال سيرا وسهرا واي وحدة كانت تلك الوحدة بل كانت مابين الليل والشتاء في اشارة جلية لخلو المشهد من دفئ الانس المناقض للشعور بالوحدة ويتشارك الليل مع الشتاء بضآلة الشمس واختفائها وبغياب وتضاؤل مصدر النور والدفئ. ويواصل الشاعر سرد معالم تلك الكوابيس قائلا:
ورحيل قد حان
رحيل قد حان
وهنا تتكرر العبارة تأكيدا على فكرة الرحيل التي كانت تلوح لحضورها في مشهد الكابوس. ويأخذنا الشاعر معه حيث مشهد الحلم ليعبر بنا ومن خلال انتقالة خاطفة من حلم الى رصيف حلم جديد موثقا ذلك بقوله:
واعبر نحو رصيف الحلم الجديد .
نعم كان ذلك الرحيل الذي لاح بآفاق المشهد يستلزم حلوله الانتقال والدفع بكل قوة وسطوة لذهن الشاعر ليرغمه على ان يجد نفسه برصيف حلم آخر وامرا جديد وواقع جديد يفرض نفسه على مزاج كاتب النص. ويؤكد كاتب النص لنا فكرة البداية الجديدة التي اعقبت ذلك العبور وجددت واقعا لامفر منه كان يبدو للحاضرين ليس الا بداية جديدة ومنها الانطلاق الذي لاصمت فيه بل ترافقه حكاية يصعب التكهن بأدق تفاصيلها واجزاؤها لكنها تبدو معتمة بعض الشيء وتبدو مجهولة الابعاد على جدران الوعي.ودون الشاعر ماكان قد استنتجه فيها قائلا :
واعبر نحو رصيف الحلم الجديد
وابدأ من جديد
حاملا معي حكاية ترسم الغد المجهول لينتقل بنا كاتب النص من حرف الشعور الى الصورة المعنوية للحظة من لحظات الكابوس قائلا :
وجهها غريب تلك الحكاية .
لنجد انفسنا على هامش المكان الذي حل عليه كابوس اللحظة الذي باغت ذهن الشاعر ولأن الصورة الكابوسية لاتكن ابعادها ثابتة لذا لم يشر كاتب النص لجهة محددة واكتفى بقوله :
هناك حيث يكون عنوان .
نعم اكتفى بالتصريح عن عنوان لذلك الكابوس في اشارة منه لوجود مكاني حقيقي له متصل بواقعه .لأن كوابيس المنام ليس لها مكان يتصل واقعيا بعالم الامكنة التي نمضي حياتنا عليها. ليفاجئنا الشاعر ببداية جديدة للكابوس دون ان يضع فواصل نهايات له .لأنه من الفترض ان تتخلل البدايات نهايات لكن رؤية الكاتب كانت من بداية الى بداية لأن النهاية كانت تغيب عن الظهور ولعله اراد الاشارة بأنه لم تك اي نهايات بل بدايات وحسب وهكذا تسير الاحلام والكوابيس بل هكذا نظامها فيجد من يعيش الحلم نفسه هنا وهناك ولايدري كيف انتقل من هنا لهناك وعاد من هناك الى هنا فقد تبدو له بدايات المشاهد وتغيب عنه نهاياتها وهذا نظام الكوابيس وسياقات وجودها السائدة .وقد عبر الشاعر عن تلك البداية قائلا :
يبدأ من رحلة المسافرين
من مرافئ الغربة البعيدة .
كانت تلك البداية تتمثل في مفردات لموضوع واحد تمثل في (رحلة)،(مسافرون)،(مرافئ)،(غربة). فجميعها مكونات للأغتراب المكاني والزماني وقد يكون المراد منها الاغتراب الشعوري واغتراب الهوية الذي اكده كاتب النص بقوله :
وخلف دموع النازحين
المرسومة في الصحف الملقاة على
قارعة الزمن .
فهذه المفردات (دموع النازحين)،(الصحف الملقاة) كلاهما اشكال لغربة ذات وغربة وطن لأن الدموع تتحدث عن ذات تعيش حدثا استثنائيا وكذلك الصحف الملقاة تتحدث عن قضية اهملت والقي بها على ارض الزمن في اشارة عن قضية تتصل بها فالذي تحدث عن قضية ارض تم الالقاء به الى الارض ليبقى مع قضيته دون حلول وكأنه يقال له حسبك هذا .وابقى عند حدود التراب وابق في حدود زمن ما فلا شأن للناس في قضيتك او لعله الاقصاء المتعمد للقضية والالقاء بها على ارض الزمن لتداس بأقدام النسيان وليغطيها غبار الازمان لتنطمس وتزول. وتابع الكابوس تحركاته فمن غربة المكان الى غربة الشعور وعبر عن ذلك قائلا :
ومن مرافئ الغربة والشوق للحنين
وخلف دموع العمر.
اعقب ذلك بعبارة :
أجد أسمي مدونا .
وكانت تلك حالة اكتشافه للكابوس والوعي بحدوثه ووجوده القهري في حياة صاحب النص .ولم يتركنا الكاتب عند نقطة الاكتشاف الطبيعي في كابوس الاغتراب في الوطن والذات بل انطلق بنا في جولة من الاكتشاف تمثلت لنا بحمرة الدم التي ترمز للحرب والقتال ولم تكن لتلك الحمرة اي اهمية تذكر في الاعلام سوى بصحف لاتتجاوز حدودها قارعة الزمن الذي يتصل بها لحظيا ليس الا ولا حياة لحروفها المطبوعة بالدم اكثر من لحظة انطباعها والقاءها في حيز الزمن وتعليقها على جدران النسيان والاقصاء وقد تكون تلك الصحف الملقاة هي اجساد لمن ماتوا مقتولين وسفكت دماؤهم وكانت اجسادهم صحف تتحدث عن ظلامتها وهي على قارعة ازمنة متصلة بتلك الامكنة لحظيا لا على الدوام .تبوح بظلامتها في صمت احمر دون انين ودون وجع خطف معه كل حواس المقتولين.وقد عبر عن ذلك الشاعر قائلا :
سأجد نفسي مدونا بحبر الدم
مرة أخرى في الصحف الملقاة على
قارعة الزمن .
وبينما تجري احداث الكابوس في لحظة زمن يصعب جدا تحديدها على الذي شلل الكابوس حواسه وخنق انفاسه وكتم على صوته ورغم اهوال اللحظة لكن الكاتب اشار الى مكانها ولو من طرف خفي مع كل مافيها من اغلال وتشويش صرح الشاعر عن انتماء تلك اللحظة لزمن يدركه مع جهله بأبعاده فقال عنه واصفا أياه :
الزمن البعيد اللامتناهي .
وأجده فوق رصيف الأحزان.
وكان مقصده عن اسمه الذي اكتشفه في لحظة من زمن الكابوس ليشير الى مكان انتماء اسمه على الابعاد اللامنتمية الا لكابوس المعاناة حيث يصف تلك الامكنة قائلا :
حيث تسكن خطواتي الحزينة
خلف مسافات الحياة .
في اشارة صريحة لأقصاء اسمه واستبعاده الى جهة ماوراء الحياة ليفصح لنا عن السلب الذي مارسه ذلك الكابوس بحقه فسرق منه الحياة واورثه الموت والحزن والاهمال والصمت الذي يسكن به صوت الخطوات على قارعة الاقصاء والاهمال والرعب والبطش المميت. ونحن ننهي مرحلة تحليل النص يلفت انتباهنا ان الموضوع هو عبارة عن لحظة رعب مكبوت وقد خالطه الحزن والحيرة والطريق ذو النهاية المجهولة وكانت القصيدة تتحدث عن معاناة سادها التهميش والاقصاء وكانت عبارة عن تنفيس لمشاعر وتصريف لكبت ونوعا ما نعطي الحق للكاتب ان يطرح قضيته ومعاناته التي قد يراها هو بالغة الاهمية لذا نقيم فكرته ومضمونها وغايتها بحسب قناعة الكاتب ونضعها في اطار الاهمية والضرورات والحق المشروع وبذا تكون الفكرة سائغة وكان له الحق بتطويع الزمان والمكان والوجدان لنصرة قضيته ودعمها بالرغم من انه لم يتحدث عنها سوى بأشارات وملامح لمعالمها وهنا كان الابداع الذي يثير حاسة الاستكشاف لدى المتلقي ويجعله متتبعا لسياقات النص حتى يقع على الجرح وتلامسه صبغة الدم الحمراء في مشهد الكابوس المستحوذ على مساحة الشعور وعند بلوغه الذروة .
وعند مواصلتنا استكشاف النص نلاحظ انه ابتدأ بالسير وانتهى بالمسافات وعند ربط البداية مع النهاية نلاحظ بعدا حركيا على طول مساحة النص وكانت الحركة النصية تبلغ الى نقطة تجتاز بها مظاهر الحس الاستكشافي لأن ما خلف الحياة هي نتائج لايمكن التكهن بها ولايدرك ذلك البعد من الوجود الا من مات بالفعل او من يشعر بالموت وهو في ذروة الحياة .وهنا نعترف بقوة رسالة الحزن واليأس والألم عبر مفردات النص وبنفس الوقت لانجد به فسحة امل او بالاحرى غابت فيه جمرة الصمود المفترض وجودها تحت رماد اليأس على اقل تقدير ولأن الشعور بالهزيمة مدان عقلائيا لذا غاب التوازن العاطفي والعقلي بالنص وكانت الغلبة للعاطفة والحس ورغم طغيان العاطفة الا ان النص قد ابلغ رسالته واوصلها بصيغة ابداعية جميلة استحقت منا ان ندرسها ونوليها اهتمامنا . امنياتي للشاعر الاديب الفلسطيني - حسام سواعد - بالتوفيق ومزيدا من الابداعات.وكان هذا نصه الذي سلطنا عليه اضوائنا ودرسناه بمجهر النقد :
- كوابيس آخر الليل الحزينة -
سائرا وحيدا
ساهرا وحيدا
بين الليل والشتاء
ورحيل قد حان
رحيل قد حان
واعبر نحو رصيف الحلم الجديد
وابدأ من جديد
حاملا معي حكاية ترسم الغد المجهول
وجهها غريب تلك الحكاية
هناك حيث يكون عنوان
يبدأ من رحلة المسافرين
من مرافئ الغربة البعيدة
وخلف دموع النازحين
المرسومة في الصحف الملقاة على
قارعة رصيف الصباح الحزين
ومن مرافئ الغربة والشوق للحنين
وخلف دموع العمر
اجد اسمي مدونا
سأجد نفسي مدونا بحبر الدم
مرة اخرة في الصحف الملقاة على
قارعة الزمن
الزمن البعيد اللامتناهي
وأجده فوق رصيف الاحزان
حيث تسكن خطواتي الحزينة
خلف مسافات الحياة .