الأحد، 26 فبراير 2017

مملكة العدل ....بقلم تامر ابوطالب

مملكة العدل
*******
وفى صمت الليل الصافى بالريف البديع ذو الهواء النقى والقلوب الطيبة بقرية تقع بجانب غابة كثيفة تمتلىء بالحيوانات الشرسة ، وقبل آذان الفجر تنادى أم عبدالله على زوجها وهى تقوم بتحضير الفطور يا أبا عبدالله قم لتغتسل فقد اقترب موعد الصلاة

فيستيقظ أبا عبدالله من نومه مسرعا وكأنه كان منتظرا كلمات زوجته التى اعتاد أن يستيقظ عليها

اغتسل ابا عبدالله ولبس جلبابه وتطيب وذهب إلى المسجد ليصلى الفجر وبعد الصلاة تقابل بالمسجد مع أبنه عبدالله  الذى سبقه إلى هناك فينحنى عبدالله ويقبل يد أبيه ويدعو له أبيه بالخير .

ثم يخرجا من المسجد ويعودا سويا إلى الدار وفى طريق العودة يسأل عبدالله أبيه :
يا أبى هل وجدت حلا للفئران التى احتلت غرفة الخزين وأتلفت الحبوب التى نخزنها بها ؟
فيرد أبوه : والله يا بنى لقد غلب على الأمر فهم أذكياء لدرجة انه لا سم ينفع معهم ولا مصائد فيدى على كتفك يا بنى ولتبحث لنا عن شىء يخلصنا منهم .

فيرد عبدالله : إن شاء الله يا ابى سأجلب لك اليوم من أحد اصدقائى قط شرس يكونوا وجبة له قبل أن ينتهى اليوم .

فيقول له ابيه : ، ولكننا يا عبدالله افضل حالا من جيراننا على اطراف القرية  فنحن فى وسط القرية فى الامان ولا يؤرقنا غير بضعة فئران ، اما هم فالذئاب والثعالب والحيوانات المفترسة كثيرا ما تنهش حيواناتهم وتقتلهم هم انفسهم احيانا .

فاقل عبدالله : اينعم يا ابى الحمد لله فعلا نحن احسن حالا

وما أن فرغا من حديثهما كانا قد وصلا إلى الدار ليجدا أم عبدالله قد أعدت لهما فطورا طيب الرائحة وامتزج هواء الدار برائحة الخبيز الشهية ليجلس ثلاثتهم ويسمون الله ويتناولوا فطورهم وتأكل أم عبدالله الله لقيمات بسيطة لتنتهى قبلهم من تناول الطعام وتقوم سريعا لتعد أكواب الشاى الذى يحبون أن يحتسوه قبل ذهابهم إلى الحقل .

وتعود أم عبدالله حاملة أكواب الشاى الساخن ليحتسوه ويخرجون جميعا متوكلين على الله  فأبا عبدالله إلى الحقل وعبدالله إلى العمل ام عبدالله إلى السوق .

يعود أبا عبدالله إلى الدار وقت الظهيرة بعد يوم عمل شاق
ليجد عبدالله جالسا وبجانبه قط سمين تحمل ملامح وجهه شراسة غير عادية
فيقول لعبدالله أحسنت صنيعا يا ولدى فهذا إن شاء الله من سيخلصنا منهم إلى الأبد ، هى أذهب وخذه إلى غرفة الخزين وضع له الطعام وأغلق عليه الباب ولا تفتحه له إلا ان يظفر بصيده .

يأخذ عبدالله القط ويذهب به إلى غرفة الخزين ليضعه هناك ويجلب له طعاما وماءا وقبل أن يغلق الباب عليه يوجه حديثه للقط سأجلب لك لحما كثيرا إن خلصتنا منهم .

لم تمر ساعة ويسمع الجميع هرج ومرج ومطاردات فى غرفة الخزين واصوات نهيز الفئران مختلطة بمواء القط فيسعد عبدالله ويقول لأبيه ألم أقل لك أنه لن ينتهى اليوم إلا ويخلصنا منه فيقول أبا عبدالله لا تفتح الباب عليه الأن انتظر للغد لنكون مطمئنين إلى أنه قتلهم جميعا .

ويأتى الغد ويدخل ابا عبدالله وابنه سويا إلى غرفة الخزين لينظفاها من جثث الفئران فيجدا القط جالسا متحفزا ومتربصا وكأنه ينتظر مزيدا من الفرائس وينظا إلى الأجولة فيجداها سليمة فيربت عليه عبدالله ويقول له احسنت ولكنهما بعد أن انهكهما البحث لم يجدا شيئا فيستغربا ويتساءل ابا عبدالله أين ذهبت الفئران ؟
فيرد عبدالله لا يهم يا ابى المهم انهم لم يقرضوا مزيدا من الأجولة ويفسدوا ما بها من حبوب ، لا تقلق يا ابى سأترك القط يوما آخر لنتأكد من عدم عودتهم مرة أخرى
فيقول له اباه لا تنسى أن تضع له طعاما وماءا قبل ان تغلق عليه الباب فقد أكل كل طعام الأمس

يضع عبدالله الطعام والماء للقط ثم يغلق عليه الباب وبعد مرور ساعة تتكرر أحداث وحديث الأمس ويأتى الصباح ويتوجه ابوعبدالله وابنه إلى غرفة الخزين آملين أن يكون القط قد انتصر على الفئران ولكن ما وجداه بالأمس هو ما وجداه اليوم قطا متحفزا متربصا واجولة سليمة ولا جثث ولا حتى روائح كريهة تنم عن مقتل أى من الفئران فيستغربا دون ان ينطقا بكلمة وينصرف ابا عبدالله وقبل ان ينصرف عبدالله يضع للقط طعاما وماءا وقال له يا لك من قط تعشق الطعام ياليتك تفعل شيئا بما نطعمك اياه ثم يغلق عليه الباب

وتمر ساعة وتتكرر الاحداث بأحديثها ويمر يوم تلو يوم وتتكرر الاحداث والاحاديث برتابة إلى أن جاء اليوم السابع وانتاب ابا عبدالله الفضول بعد ان شعر ان القط يوما بعد يوم يزداد اضطرابه ولكن يقل وزنه وحركته ويرغب بالهروب من الحجرة .

فقال لأبنه اذهب انت وسأضع أنا اليوم للقط الطعام فذهب عبدالله وترك اباه الذى وضع الطعام والماء للقط ولكنه هذه المرة ترك ضوء الغرفة مفتوحا واغلق الباب وانتظر الساعة الموعودة ليعرف ماذا يحدث .

وبعد ساعة يسمع ابا عبدالله ذات الاصوات لبسرع الخطى متجها إلى غرفة الخزين وينظر من ثقب الباب ليرى العجب .

ظهرت ثلاثة فئران على حوائط الغرفة والقط متحفز تظهر على وجهه علامات الغضب ينتظر اقتراب أى منهم ليفتك به

فيقترب فئرا من القط فيطارده ولكن كانت المفاجئة أن الفئرين الآخرين ينزلا ويأخذان ما يقدران عليه من طعام القط ويعودا مسرعين إلى جحر خلف الاجولة ليضعا به الطعام ويعودا فيقوم الفئر الذى يطارده القط بالهرب والصعود لأعلى الجدار وينزل فأر أخر غيره يقترب من القط فيطارده القط فيقوم الفئرين الآخرين بالنزول والحصول على ما يستطيعان حمله من طعام القط ويفران بغنيمتهم إلى الجحر ويعودا ثم يفر الفأر المطارد إلى أعلى الجدار وينزل الفئر الجديد ليأخذ دورة فى المطاردة أو بالأحرى إلهاء القط ويتكرر المشهد أمام عيني ابا عبدالله الذى كان يسب غباء القط ولكنه اصبح مفتونا بذكاء الفئران الفطرى .

وتنتهى الفئران من مهمتها بنجاح وتنقل طعام القط بالكامل إلى جحرها وتغادر بعد ان انهكوا  القط ليعود القط وهو يلهث إلى صحن الماء فيشربه بالكامل ويفترش الارض ويغط فى نوم عميق .

فيغتاظ ابا عبدالله ويشتد غضبه ويقول كيف أملك عقل ويتغلب على حيوانات عديمة العقل ولكنه وهو يحدث نفسه  واتته فكرة جعلته يبتسم بخبث ودهاء وقال ابدا لن اترككم تهزمونى ايتها الوحوش الصغيرة .

يأتى صباح اليوم الجديد وينادى ابا عبدالله على ابنه ليفاجأ بعدالله الله بأن ابيه يحمل القط ويقول له اعد هذا القط الى صاحبه فلم نعد فى حاجة إليه .

فيقول عبدالله لابيه هل قتل الفئران ؟

فيرد ابا عبدالله : لا ولكن انا سأقتلها .

فيستغرب عبدالله من رد ابيه ولكنه لم يعترض واخذ القط من ابيه ليعيده إلى صديقه ويشكره .

اما ابا عبدالله فتوجه إلى غرفة الخزين حاملا الطعام ثم يدخل الغرفة ويضعه وهو ينظر إلى جحر الفئران وهى تراقبه  ويبتسم بطيبة ثم يذهب ويغلق الباب دون أن يغلق الضوء وينظر من ثقب الباب ليرى الفئران تنزل من جحرها وتقترب من الطعام بحذر وتشمه مرة تلو الاخرى إلى ان تأكدوا من سلامته فبدءوا فى نقل الطعام إلى جحرهم وذهب ابا عبدالله وهو سعيد ومطمئن .

وجاء فى اليوم التالى ليعاود الكرة فتعاود الفئران تكرار ما فعلته بالأمس ويذهب ابا عبدالله سعيدا مطمئنا .

ثم جاء فى اليوم التالى ليعاود الكرة فتعاود الفئران تكرار ما فعلته بالأمس ويذهب ابا عبدالله سعيدا مطمئنا .

وفى اليوم الذى يليه يعاود ابا عبدالله الكرة ولكن تغير الفئران ما فعتله بالايام السابقة فلم تنقل الطعام إلى جحرها هذه المرة واكلت من الصحن وهى سعيدة مطمئنة ويبتسم بخبث ابا عبدالله وهو يراقبها من ثقب الباب ويقول اقتربنا .

تمر الايام والاسابيع ويفعل ابا عبدالله الشىء ذاته بلا تغيير ولكن ذات يوم بادر عبدالله ابيه بسؤال وهو ذاهب إلى غرفة الخزين لاطعام الفئران وقال له يا ابتاه هل استهوتك تربية الفئران ؟

وكانت تظهر على وجه عبدالله علامات الغيظ

فقال له اباه اصمت

فقال عبدالله : كيف اصمت وقد اصبحت الفئران اسمن من القطط بعد أن اطعمتها قوتنا رغم قلته وما أحوجنا إليه منهم؟

قال له ابيه : اقتربت ان تصل الى هدفى يا عبدالله .

فقال له ولده كيف ؟

قال له ابيه : يا بنى خلق الله الارض وما عليها وسخرهم للانسان ولن يهزمنا ابدا ما سخره الله لنا وان تحدانا إن استخدمنا العقل

فظهرت علامات الدهشة والتعجب على وجه عبدالله

فقال له ابيه : يا بنى لقد راقبت الفئران ورأيتهم كيف كادوا ينهون حياة هذا القط الغبى ... وعلمت اين جحرهم السرى وقد عاينته ووجدت ان مدخله ضيق ولم اجد بدا الا ان اطعمهم ليسمنوا ولا يستطيعوا الولوج إليه عند مطاردتهم .

فقال عبدالله وما يدريك أنهم لا يقوموا بقرض مدخل الجحر يوميا ليتسع لاجسادهم السمينة  ؟

فقال له ابيه : يا بنى انا قائم على مراقبتهم طوال الوقت وقد سمنوا وثقلت حركتهم وامنوا جانبى ولم يعودوا يفكرون حتى فى دخول جحرهم وقد اقترب اليوم الموعود .

وظل ابا عبدالله على حاله اسابيع اخرى إلى أن آتى اليوم الموعود .

حمل أبا عبدالله صحن الطعام فى يد واخفى فى البد الاخرى عصا غليظة خلف ظهره بعد ان تركهم يوما كاملا بلا طعام وفتح الباب  ودخل ليضع الطعام فوجد الفئران الفئران تنتظره ولكنه تفاجأ وهو يضع الصحن على الارض باقتراب الفئران منه دون خوف ووقفت على سيقانها السفلى وترفع جسدها وتنظر اليه فى امتنان وكأن سيقانها العليا ايادى مرفوعة تدعو له

فاهتز جسد ابا عبدالله من التأثر ووقعت العصا من يده واجهش بالبكاء

وجلس فى ركن من اركان الحجرة وظل يراقب الفئران ويبكى

وقال وهو يحدث نفسه سبحان الله أبلقيمات قليلة تتحول الحيوانات الشرسة الضارة إلى أليفة مستأنسة

اللهم لا حول ولا قوة الا بك ، ربنا لا تؤاخذنا بما فعلنا فقد ظلمناهم بطمعنا واستحواذنا على الدنيا وكأنها ملك لنا وحدنا

تعلم الرجل حكمة الحياة من حيوانات ضعيفة لا حول لها ولا قوة وعلم أن العدل اساس الملك
علم انه هناك فرق بين الملك والامتلاك
فالملك لله يعدل فيه بين الخلق ويوزع الارزاق
والامتلاك مرض للخلق يجعل من يستحوذ عليه حبه ظلاما لغيره ويمنع عنه الرزق ويمنع عن غيره الخير ليؤول إليه .

ويفيق ابا عبدالله من حديثه مع النفس ومناجاته لربه بعدما احس بشىء يتحرك على قدمه  فانتفض ليجد الفئران تجلس فى حجره وكانها قطط أليفة

ومنذ هذه اللحظة لا تفارق الفئران ابا عبدالله فى كل مكان يذهب إليه وانتشر خبر ابا عبدالله بين اهل القرية وعلموا قصته منه وعلمهم الحكمة فأصبح كل منهم يتقاسم قوته مع الحيوانات التى كانت تضره ويحاربها فتحولت جميع الحيوانات الشرسة بالعدل إلى أليفة
امنوا ضررها واصبحت نافعة لهم

وعندما وجد ابا عبدالله ما صار بالقرية جمع اهلها وقال لهم : ما حالكم اليوم مع الحيوانات ؟

فقالوا : نشكر الله أن علمك الحكمة وعلمتها لنا

فقال لهم : ما علمتكم الا نصفها واليوم اعلمكم النصف الاخر
فلا خير فى حكمة منتقصة

اخوانى قد نصبح نحن فيما بيننا اكثر شراسة من الحيوانات وحينها ستعود الحيوانات الى شراستها وقد نستخدمها ضد بعضنا إن لم يصير بيننا العدل ويكتمل بالحب

فلقد خلق الله الحب على الارض قبل ان يخلق الانسان ويسخرها بما فيها له

ليحب الانسان هيئته التى خلق عليها

ثم يحب الارض والحياة عليها

ثم يحب ان يتآلف مع بنى جنسه

ثم يحب أن يتكاثر جنسه ويعمر الارض التى احبها واحب الحياة عليها

ثم يحب الله الذى خلق كل هذا وسخره له

فالعدل لا يكتمل الا بالحب فانشروا الحب بينكم

بقلمى

تامر ابوطالب

إلى اللقاء بأمر الله فى الجزء الثانى من مملكة العدل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق