النّقد الجمالي : لمحة وتطبيق .
_______________________
قامت مدرسة النّقد الجماليّ في فرنسا على نظريّة في الجمال ل( كانت )الألماني . وتزّعمه كمذهب ( كروتشه ) الألماني . ويبحث في القيم الجماليّة المستقلّة عن أية قيم أخلاقيّة أو علميّة ومن إفرازاته نظرّية (الفن للفن) والتي قرّبت الأدب من الموسيقا وكانت من دعائم الأدب الرّمزيّ .
ويُسمّى الاتّجاه الجمالي الاتّجاه الحسّي حيث الفنُّ نوعٌ من المعرفةِ , وعند أوسكار ويلد : " الفنّان صانع الأشياء الجميلةِ . وغاية الفنّ أن يكشف عن نفسه وأن يخفي شخصيّته , وليس بين الكتب كتبٌ أخلاقيّة وكتبٌ منافية للأخلاق . فالكتبُ إمّا جميلة التّأليف وإمّا رديئة التّأليف .
ولن أذهب إلى المتقدّمين الأوائل الّذين كان لهم الأثر فيمن جاء بعدهم إذْ يعدّوْن كالمؤسسين لهذا المنهج الجماليّ كأرسطو وأفلاطون ومن جاء بعدهما لكنّي أريد أن أؤكّدَ أنّ البحث بمجمله يبحث في الجمال أينما كان في العمل الأدبي :
- الألفاظ والتراكيب
- المشاعر العاطفيّة
- دراسة الأفعال الحركيّة وعلاقتها بالزّمن ودلالات ذلك ........
- الصورة الشعريّة بكل تفصيلاتها ......الخ.........
ويؤكّد هذا المنهج على اللّذة واللّذةٌ تكون إيجابيّة إذا كانت وسيلةً لإنتاج الخير وتحقيق الجديد النّافع . ومن جاء بعد ذلك اختلف كثيراً أو قليلاً مع ماجاء به الفلاسفةُ الأوائلُ .
وكي لا يكون الكلام مجرّد تنظير سأقف عند بعض الأبيات من نصٍّ عدّه الأوائل والمتأخرون من أهمّ النّصوص في بابه وهو للحادرة الذّبيانيّ في محبوبته ( سُميّة ):
وإِذا تُنَازِعُكَ الحدِيثَ رأَيتَها حسناً تَبَسُّمُها، لذيذَ المَكْرَع
بِغَرِيضِ ساريةٍ أَدَرَّتْهُ الصَّبا مِن ماءٍ أسْجَرَ طَيِّبِ المُسْتَنْقَعِ
ظلم البطاحَ له انهلالُ حريصةٍ فصفا النّطافُ له بُعَيْدَ المُقلًعِ
لعبَ السّيولُ به فأصبح ماؤُهُ غلَلاً تقطّعَ في أصول الخِرْوَعِ
أسميّ ويْحك هل سمعت بغدرةٍ رُفِع اللّواءُ بها في مجمعِ
يقول محمّد أبو موسى : إنّ قصيدة الحادرة حين نبحث عن الخيط الدّقيق الذي ينظمها والشّعور الحيّ الّذي يحيط بها نجده في قرب سميّة . وإنّه الشيء الّذي جرى فيها من أوّلها إلى آخرها " .
وقد وقف الدكتور هلال الجهاد على صورة تفرّعت إلى مشهد طبيعيّ :" يتناول الحادرة جزئيّةً من جمال المرأة ( الفم) ويشكّله مخيلاً فيه ظاهرة كونيّة عنيفة في عذوبتها وعطائها ورقتها ".
وإذا كان فمُ المرأةِ حُسِبَ مطراً متدفقاً من العذوبة والرواء يغرق الأرضَ ويندفع سيولاً ويملأ العالمَ خصباً ورِيّاً , فكيف يكون وجودها الذّاتيّ الّذي يحتوي ذلك ؟
لا ريبَ في أنّ الشّاعر ذكر مبسم المرأة الموصوف بالحسن , وأراد فمها , وأشار إلى الفم لأنّه محلّ ريقها وجعلهُ لذيذ المكرع تشبيهاً له بلذّة الماء ماء السّحابة التي تقع على الأرض الظّمأى فتغمرها بالماءِ . " وقد التمس فيها بعض معاني الجمال , وكانت الصّورة تقول أشياءَ أخرى لم يقف عليها بل مسّها من أطرافها ".
ثم انظر إلى الشرط في البيت الأوّل من المقطع السّابق , ففي هذا الشّرط وأداته ( إذا) إشارة إلى المستقبل والعلاقة قد انتهت في زمن مضى قبل الرحيل , وهذا يدلّ على تفاؤله باستمرارها والدليل على مُضيّها استخدام الفعل الماضي ( رأيتها ) والحكاية كلّها في النصّ تشير إلى ذلك . ثمّ انظر إليه كيف استخدم كاف الخطاب بديلاً عنه وكأنّه أخذ من نفسه شخصاً آخرَ وفي الباطن تعادل الكافُ الشاعر نفسَهُ .
وإذا كان النصُّ الأدبيّ هو نسيجٌ لغويّ يحملُ وحداتٍ معنويّةً تشتبك بشحناتٍ انفعاليّة على نحو جماليّ فإنّ هذا التّعريف يمكن
توضيحه بالوقوف عند بيتين لامرئ القيس من معلقته :
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقةٌ فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
إنّ قلّة الضّرائر مثلاً يدلُّ على أنّ الشّاعر مطبوع ولم يأبه للتنقيح أو التّهذيب في نصّه وإن كَثُرت دلّ ذلك على التّكلّف . ومن الضّرائر في البيتين السّابقين انتقاص حرف من أحرف فاطمة كالتّاء للتّرخيم . فما دلالة ذلك النفسيّة والمعنويّة ؟
ممّا لا شك فيه أنّ الانتقاص جاء تلبيةً لمطلب الوزن العروضيّ ولكن له ما له من دلالات نفسيّة ومعنويّة , فهذا الانتقاص هو انتقاصٌ من المحبوبة نفسها فهو يراها قد فعلت التدلّلَ وهذه القطيعةَ ممّا يجعلها ناقصةً في نظره , إذ كيف تفعل ما فعلت وكان بينهما من العلاقة ما كان ( لاحظ كيف جاء بالفعل صرم بمعنى قطع للإشارة إلى شعوره بالقطيعة وألم ما فعلته , وهي لا تُحسن بهذا الفعل, لذا قال لها: ( أجملي ).
وفي البيت الثّاني يحاول أن يبيّن السبب من وراء تركها له دون تحديد حقيقيّ لهذه الصّفة التي كانت سبباً في نفورها منه أو ابتعادها ( ساءتك مني خليقة ) . ثمّ يبيّن ما بينهما من علاقة وثيقة ( سلّي ثيابي من ثيابك تنسلي ) .
ومن الواضح أيضاً مايُسمّى الفصاحة في اللفظ إن كان في النصّ الأول ( الحادرة ) أو في النصّ الثاني ( بيتي امرئ القيس ) والمقصود بالفصاحة , إفصاح اللفظ عن مقصده . ومن علامات الفصاحة , السّماحة وتعني السّماحةُ سهولة انسياب اللّفظ في حالة القول واستئناس الكلمات المجاورة له . فكم من لفظ قلقٍ في مكانه نتيجةً لكونه يفتقد للسماحة والفصاحة معاً ويرد ذلك في شعر الكثير من الشّعراء اليوم دون أن ينتبهوا إلى ذلك .
أحببت في هذه العجالة أن أشير إلى بعض ما يتناوله المنهج الجمالي في الأدب و الشعر بشكل خاص وأدلل على ذلك بأبيات للحادرة وامرئ القيس وهما من فحول الشعر العربيّ وأمهّد من وراء ذلك لشعرائنا أن يأخذوا ذلك بعين بصيرتهم وهم يبدعون
أسامة حيدر 20 \5\2017
_______________________
قامت مدرسة النّقد الجماليّ في فرنسا على نظريّة في الجمال ل( كانت )الألماني . وتزّعمه كمذهب ( كروتشه ) الألماني . ويبحث في القيم الجماليّة المستقلّة عن أية قيم أخلاقيّة أو علميّة ومن إفرازاته نظرّية (الفن للفن) والتي قرّبت الأدب من الموسيقا وكانت من دعائم الأدب الرّمزيّ .
ويُسمّى الاتّجاه الجمالي الاتّجاه الحسّي حيث الفنُّ نوعٌ من المعرفةِ , وعند أوسكار ويلد : " الفنّان صانع الأشياء الجميلةِ . وغاية الفنّ أن يكشف عن نفسه وأن يخفي شخصيّته , وليس بين الكتب كتبٌ أخلاقيّة وكتبٌ منافية للأخلاق . فالكتبُ إمّا جميلة التّأليف وإمّا رديئة التّأليف .
ولن أذهب إلى المتقدّمين الأوائل الّذين كان لهم الأثر فيمن جاء بعدهم إذْ يعدّوْن كالمؤسسين لهذا المنهج الجماليّ كأرسطو وأفلاطون ومن جاء بعدهما لكنّي أريد أن أؤكّدَ أنّ البحث بمجمله يبحث في الجمال أينما كان في العمل الأدبي :
- الألفاظ والتراكيب
- المشاعر العاطفيّة
- دراسة الأفعال الحركيّة وعلاقتها بالزّمن ودلالات ذلك ........
- الصورة الشعريّة بكل تفصيلاتها ......الخ.........
ويؤكّد هذا المنهج على اللّذة واللّذةٌ تكون إيجابيّة إذا كانت وسيلةً لإنتاج الخير وتحقيق الجديد النّافع . ومن جاء بعد ذلك اختلف كثيراً أو قليلاً مع ماجاء به الفلاسفةُ الأوائلُ .
وكي لا يكون الكلام مجرّد تنظير سأقف عند بعض الأبيات من نصٍّ عدّه الأوائل والمتأخرون من أهمّ النّصوص في بابه وهو للحادرة الذّبيانيّ في محبوبته ( سُميّة ):
وإِذا تُنَازِعُكَ الحدِيثَ رأَيتَها حسناً تَبَسُّمُها، لذيذَ المَكْرَع
بِغَرِيضِ ساريةٍ أَدَرَّتْهُ الصَّبا مِن ماءٍ أسْجَرَ طَيِّبِ المُسْتَنْقَعِ
ظلم البطاحَ له انهلالُ حريصةٍ فصفا النّطافُ له بُعَيْدَ المُقلًعِ
لعبَ السّيولُ به فأصبح ماؤُهُ غلَلاً تقطّعَ في أصول الخِرْوَعِ
أسميّ ويْحك هل سمعت بغدرةٍ رُفِع اللّواءُ بها في مجمعِ
يقول محمّد أبو موسى : إنّ قصيدة الحادرة حين نبحث عن الخيط الدّقيق الذي ينظمها والشّعور الحيّ الّذي يحيط بها نجده في قرب سميّة . وإنّه الشيء الّذي جرى فيها من أوّلها إلى آخرها " .
وقد وقف الدكتور هلال الجهاد على صورة تفرّعت إلى مشهد طبيعيّ :" يتناول الحادرة جزئيّةً من جمال المرأة ( الفم) ويشكّله مخيلاً فيه ظاهرة كونيّة عنيفة في عذوبتها وعطائها ورقتها ".
وإذا كان فمُ المرأةِ حُسِبَ مطراً متدفقاً من العذوبة والرواء يغرق الأرضَ ويندفع سيولاً ويملأ العالمَ خصباً ورِيّاً , فكيف يكون وجودها الذّاتيّ الّذي يحتوي ذلك ؟
لا ريبَ في أنّ الشّاعر ذكر مبسم المرأة الموصوف بالحسن , وأراد فمها , وأشار إلى الفم لأنّه محلّ ريقها وجعلهُ لذيذ المكرع تشبيهاً له بلذّة الماء ماء السّحابة التي تقع على الأرض الظّمأى فتغمرها بالماءِ . " وقد التمس فيها بعض معاني الجمال , وكانت الصّورة تقول أشياءَ أخرى لم يقف عليها بل مسّها من أطرافها ".
ثم انظر إلى الشرط في البيت الأوّل من المقطع السّابق , ففي هذا الشّرط وأداته ( إذا) إشارة إلى المستقبل والعلاقة قد انتهت في زمن مضى قبل الرحيل , وهذا يدلّ على تفاؤله باستمرارها والدليل على مُضيّها استخدام الفعل الماضي ( رأيتها ) والحكاية كلّها في النصّ تشير إلى ذلك . ثمّ انظر إليه كيف استخدم كاف الخطاب بديلاً عنه وكأنّه أخذ من نفسه شخصاً آخرَ وفي الباطن تعادل الكافُ الشاعر نفسَهُ .
وإذا كان النصُّ الأدبيّ هو نسيجٌ لغويّ يحملُ وحداتٍ معنويّةً تشتبك بشحناتٍ انفعاليّة على نحو جماليّ فإنّ هذا التّعريف يمكن
توضيحه بالوقوف عند بيتين لامرئ القيس من معلقته :
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقةٌ فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
إنّ قلّة الضّرائر مثلاً يدلُّ على أنّ الشّاعر مطبوع ولم يأبه للتنقيح أو التّهذيب في نصّه وإن كَثُرت دلّ ذلك على التّكلّف . ومن الضّرائر في البيتين السّابقين انتقاص حرف من أحرف فاطمة كالتّاء للتّرخيم . فما دلالة ذلك النفسيّة والمعنويّة ؟
ممّا لا شك فيه أنّ الانتقاص جاء تلبيةً لمطلب الوزن العروضيّ ولكن له ما له من دلالات نفسيّة ومعنويّة , فهذا الانتقاص هو انتقاصٌ من المحبوبة نفسها فهو يراها قد فعلت التدلّلَ وهذه القطيعةَ ممّا يجعلها ناقصةً في نظره , إذ كيف تفعل ما فعلت وكان بينهما من العلاقة ما كان ( لاحظ كيف جاء بالفعل صرم بمعنى قطع للإشارة إلى شعوره بالقطيعة وألم ما فعلته , وهي لا تُحسن بهذا الفعل, لذا قال لها: ( أجملي ).
وفي البيت الثّاني يحاول أن يبيّن السبب من وراء تركها له دون تحديد حقيقيّ لهذه الصّفة التي كانت سبباً في نفورها منه أو ابتعادها ( ساءتك مني خليقة ) . ثمّ يبيّن ما بينهما من علاقة وثيقة ( سلّي ثيابي من ثيابك تنسلي ) .
ومن الواضح أيضاً مايُسمّى الفصاحة في اللفظ إن كان في النصّ الأول ( الحادرة ) أو في النصّ الثاني ( بيتي امرئ القيس ) والمقصود بالفصاحة , إفصاح اللفظ عن مقصده . ومن علامات الفصاحة , السّماحة وتعني السّماحةُ سهولة انسياب اللّفظ في حالة القول واستئناس الكلمات المجاورة له . فكم من لفظ قلقٍ في مكانه نتيجةً لكونه يفتقد للسماحة والفصاحة معاً ويرد ذلك في شعر الكثير من الشّعراء اليوم دون أن ينتبهوا إلى ذلك .
أحببت في هذه العجالة أن أشير إلى بعض ما يتناوله المنهج الجمالي في الأدب و الشعر بشكل خاص وأدلل على ذلك بأبيات للحادرة وامرئ القيس وهما من فحول الشعر العربيّ وأمهّد من وراء ذلك لشعرائنا أن يأخذوا ذلك بعين بصيرتهم وهم يبدعون
أسامة حيدر 20 \5\2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق